أثر الحجّ في الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة عبر العصور
كتب: أ. د. محمّد الحبيب الهيلة
07/12/1431 الموافق 13/11/2010

إنّ من أبهى وأعظم خصائص الإسلام ومزاياه ارتباط عبادته وشعائره بالتربية والتثقيف والإصلاح والتوجيه، والدفع إلى الخير، والمنع من الضلال، فكانت محلات العبادة مدارس ثقافيّة وعلميّة، كما كانت مراكز توجيه وإصلاح للفرد المسلم وللجماعة المسلمة.
تعوّد المسلمون منذ العهد النبوي الأوّل أن يكون الحرم المكّي في موسم الحجّ موطناً للقاء بين العالِم والمتعلّم ومكان التلقّي للمعرفة والتفقّه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله خلال حجّة الوداع قائماً على التعليم والتثقيف، يُسأل فيجيب، ويتجمع حوله الناس فيبلّغ المعرفة والهداية، إلاّ أنّ تفقيهه ذلك لم يكن ليصل إلى جميع المسلمين، فدعا الناس وهو في الخيف من منى إلى إبلاغ المعرفة وتداولها والعمل على وصولها إلى كافّة الناس، وإنّ المعرفة أمانة عندهم عليهم إبلاغها لأيّ مسلم كان وتلقيها من أيّ مسلم كان بشرط الصدق والإخلاص، فقد روى الترمذي في سننه حديثاً نصّه: "قام رسول الله صلى الله عليه وآله بالخيف من منى فقال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثمّ أسلمها إلى مَن لم يسمعها، فرُبَّ حامل فقه لا فقه له، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (1).
ولما انتقل المسلمون إلى عرفات ألقى فيهم خطبة الوداع التي تعتبر هي أيضاً مثلا للإبلاغ من الرسول المعلّم إلى عامّة المتلقين من المسلمين الحجيج.
وهكذا ارتبط موسم الحج من بدايات ظهوره ارتباطاً وثيقاً بالتثقيف والتعليم، كما ارتبط بتأصيل وترتيب التعامل الاجتماعي، كلّ ذلك ينضاف إلى العبادة والسعي إلى التقرّب من الله زلفي ونيل خيره وهديه ومغفرته.
ودأب المسلمون على ذلك منذ فجر الدعوة إلى يوم الناس هذا، فإذا مكّة المكرّمة تصبح عاصمة للثقافة الإسلاميّة وتتعاضد مع المدينة المنوّرة لاحتضان وإيواء أولى المدارس العلميّة الإسلاميّة التي شرّعت الطريق ونهجت المناهج وغرست البذرات التي انتجت ثمار المعرفة الإسلاميّة فيها وفي الأمصار الأخرى.
ففي مكّة المكرّمة، نشأت أولى المدارس العلميّة على أسس ركّزها رجل أدرك قيمته رسول الله صلى الله عليه وآله فسمّاه «خير هذه الأمّة» أو «ترجمان القرآن» إنّه عبد الله بن عبّاس الذي اضطلع بتفقيه المسلمين في مختلف عرصات الحرم وخاصّة في دار زمزم التي عرف الناس مجلسه بها، فوردوا عليه يسمعون تفسيره للقرآن، ورواياته للأحاديث، وتدريسه لأنواع من الفقه العقدي الديني واللغوي وغير ذلك،ثمّ تتالت بعده الطبقات من أعلام المكّيين.
وترسخ الطابع العلمي لمكّة المكرّمة فأصبحت عاصمة ثقافيّة لأسباب وجيهة وواضحة، فإنّ إلى مكّة يحجّ الناس ويأتونها من كلّ صوب، ويقدمون عليها من كلّ بلد ومن كلّ قطر ومصر، ففيها يلتقي الحجيج من عامّة أو من مثقّفين علماء، فيأتي كلّ منهم بزاده العلمي، وقدرته الثقافيّة، وتجاربه الحضاريّة، وتطورات مجتمعه وتغيراته فيكون لقاؤهم في مؤتمرهم السنوي مباركاً ومفيداً، لأنّه يقدّم عمليّة إعلاميّة واسعة النطاق تبلغ المعلومة من السِنْد إلى الأندلس، ومن السودان إلى تركيا، وقُلْ من كلّ بلد إسلاميّ إلى كلّ بلد إسلاميّ.
يَقدُم الوافدون إلى مكّة فيهدون إليها شذرات من ثقافاتهم وعلومهم، وتهديهم مكّة بدورها علماً واسعاً ومعارف نافعة، ويجدها الناس قد هيّأت لهم جماعات من العلماء وجحافل من المثقفين يستجيبون لتطلعاتهم ويجيبون عن أسئلة الحجيج وتوقفاتهم، وينشرون معارفهم التي وصلوا إليها ببحثهم ونظرهم، كما ينقلون لهم ما بلغهم من فقه وثقافات الأقطار الأخرى، وهكذا كان علماء مكّة صلة الوصل ونقطة الالتقاء بين علماء المسلمين على اختلاف بلادهم وأمصارهم.
وتتجلّى لنا قيمة هذه العاصمة الثقافيّة بما تشارك به في النمو الفكري الإسلامي وتقدّمه من علماء ضمن الزاد البشري المثقّف للأمّة، لقد قدمت مكّة للثقافة الإسلاميّة أساطين من العلماء وأعلام من المثقفين ومشاهير من المفكرين والمنتجين في العديد من المجالات، وتستبين لنا أهمّية هذا الزاد البشري من العلماء إذا ما طالعنا كتب التراجم والطبقات الخاصّة بالمكيين، وهي كثيرة وعديدة تناولت كلّ العصور والأزمان.
ولإظهار عيّنة من ذلك نذكر كتابين من نتاج القرن التاسع يقومان دليلا على ثراء مكّة الثقافي، ووفرة ما رُزقته من أبناء مثقفين وعلماء.
أوّل الكتابين تأليف لتقي الدين الفاسي المكّي (ت832هـ / 1429م) عنوانه «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» (مطبوع في ثمانية مجلدات) انصبّ فيه أغلب اهتمام المؤلّف على تراجم علماء مكّة مرتبين على حروف الهجاء، مسبوقين بالمحمدين والأحمدين، فكانت أعدادهم تصل إلى الآلاف.
وثاني الكتابين ألف بعد الأوّل بخمسين سنة، إنّه كتاب (الدرّ الكمين بذيل العقد الثمين) الذي وضعه النجم عمر بن التقي بن فهد (ت885هـ / 1480م) فأكمل فيه ما نقص أو أهمل في العقد من تراجم المكّيين، وذيّل عليه بتراجم من ظهروا بعد تأليف العقد، فأورد فيه آلاف أخرى من تراجم المكّيين.

ويعتبر الكتابان عنصران لأوّل معلمة تاريخيّة جامعة لأخبار المكّيين والمكّيات من علماء وفقهاء، وأهل ثقافة وأدب، فما بالنا لو أضفنا لهؤلاء المترجمين من أهل مكّة من جاء بعد القرن التاسع إلى قرننا الخامس عشر!
لقد انتشر الوعي الثقافي والتطلّع العلمي في المجتمع المكّي فمسّ كلّ طبقات سكّانها، وبدت فيه ظاهرة دالّة على عمق المدينة المقدّسة بالثقافة والعلوم، ذلك أنّ مكّة عرفت منذ القرن الخامس الهجري عدداً كبيراً من العوائل العلميّة التي أخذت على عاتقها إبراز المكانة العلميّة لمدينتهم، وظلّت كلّ عائلة يتداول أبناؤها بنود المعرفة ،ويرفعون أعلام الثقافة أباً عن جد، فتعيش كلّ عائلة علميّة ما يُكتب لها من حياة، وقد يبقى بعضها منتجاً يزود المجتمع المكّي بالعلماء والمثقفين لسبعة قرون أو تزيد.
فمن العوائل العلميّة المكّية التي نذكرها للدلالة لا للإحاطة:
ـ بنو الطبري (الطبور): قرشيون وردوا من طبرة بفلسطين، وظهرت مكانتهم في العلم من القرن الخامس الهجري إلى الثالث عشر.
ـ بنو فهد (الفهود) هاشميّون وردوا من آصفون بمصر، ظهروا في القرن الثامن واستمرّوا إلى ما بعد القرن العاشر.
ـ بنو الفاسي: وهم حسنيّون وردوا من ليفه في القرن التاسع.
ـ بنو القسطلاني: وردوا من توزر بالجريد جنوب البلاد التونسيّة في القرن السابع.
ـ بنو الحطاب: وردوا من طرابلس الغرب خلال القرن العاشر.
ـ بنو علان: عُرف منهم علماء ومؤرخون خلال القرنين التاسع والعاشر.
ـ بنو النهروالي: أصلهم من عدن، ووردوا من نهروالة بالهند في نهاية القرن التاسع، وأنتجوا علماً إلى القرن الحادي عشر.
لقد ساهم أبناء هذه البيوتات العلميّة من المكّيين في إرساء قواعد مجد علمي تليد وشرف ثقافي فاخر بما ألّفوا من الكتب والمجاميع والرسائل، وبما ألقوا من الدروس وأداروا من الحوارات العلميّة والمناظرات، وبما جمعوا من شهادات وإجازات علميّة تقاطرت عليهم من كلّ مراكز المعرفة التي حوتها البلاد الإسلاميّة


منقول من موقع التاريخ لمحمد موسى الشريف